فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا}
وكلمة {يا بني ءَادَمَ} لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ...} [الزمر: 6]
نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضًا لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضًا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [الحديد: 25]
نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضًا؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج. {يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ...} [الأعراف: 26]
فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضًا أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سواءتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند موارة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضًا. لذلك قال الحق: {... قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]
والريش كساء الطير، وقديمًا كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا: فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضًا، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً...} [النحل: 8]
والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمَال.
وكذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق...} [الأعراف: 32]
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول: {يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...} [الأعراف: 31]
إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ...} [الأعراف: 26]
نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس- لباس التقوى- خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة؛ فالإِنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {يُوَارِي}: في محلِّ نصبٍ صفة لـ {لِبَاسًا}.
وقوله: {وَرِيشًا} يحتملُ أن يكون من باب عَطْفِ الصِّفاتِ، والمعنى: وصف اللِّبَاسِ بشيئين: مواراة السَّوْءَةِ، وعبَّر عنها بالرِّيشِ لأنَّ الرِّيشَ زينة للطَّائِر، كما أنَّ اللَّباسَ زينة للآدميِّين، ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ: والرِّيشُ لباسُ الزِّنة، استعير من ريش الطَّيْرِ؛ لأنَّهُ لباسه وزينته.
ويحتمل أن يكون من باب عطف الشَّيءِ على غيره أي: أنْزَلْنَا عليكم لباسين، لباسًا موصوفًا بالمُواراةِ، ولِبَاسًا موصوفًا بالزِّينةِ، وهذا اختيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال بعد ما حَكَيْتُه عنه آنفًا: أي: أنزلنا عليكم لباسَيْن، لباسًا يُواري سَوْءاتكم، ولباسًا يُزَيِّنُكُم؛ لأنَّ الزَّينةَ غرضٌ صحيحٌ كما قال تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6] وعلى هذا، فالكلامُ في قوة حذف موصوف، وإقامةِ صفته مُقامه، والتَّقْديرُ: ولباسًا ريشًا أي: ذا ريش.
والرِّيشُ فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم لهذا الشَّيءِ المعروف.
والثاني: أنَّهُ مصدرٌ يقال: راشه يريشه رِيشًا إذا جعل فيه الرِّيشَ، فينبغي أنْ يكون الريش مُشْتَركًا بين المصدر والعينِ، وهذا هو التَّحقيق.
وقرأ عثمانُ وابن عبَّاسٍ والحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والسُّلميُّ وعليُّ بْنُ الحسيْنِ وابنه زيْدً، وأبو رجَاء، وزرُّ بْنُ حبيشٍ وعاصمٌ، وأبُو عَمْروا- في رواية عنهما-: {وَرِيَاشًا}، وفيها تأويلان:
أحدهما- وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ-: أنَّهُ جمعُ رِيْش، فيكون كشِعْب وشِعابٍ، وذِئْبٍ وذئَابٍ، وقِدْحٍ وقِدَاحٍ.
والثاني: أنَّه مصدر أيضًا، فيكون رِيشٌ وِرِيَاشٌ مصدرين لرَاشَهُ اللَّهُ ريشًا ورِيَاشًا أي: أنْعَمَ عليه.
وقال الزجاجُ: هما اللِّبَاسُ، فعلى هذا هما اسمان للشَّيْءِ المَلْبُوسِ، كما قالوا: لِبْسٌ ولباسٌ.
وجوَّز الفراء أن يكون رِيَاش جمع رِيش، وأن يكون مصدرًا فأخذ الزَّمَخْشَرِيُّ بأحد القولين، وغيرُه بالآخر، وأنشدوا قول الشاعر: [الوافر]
وَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ ** وَإنْ كَانَتْ زِيَارتُكُمْ لِمَامَا

روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي قال: كُلُّ شيءٍ يعيشُ به الإنسانُ، من متاع، أو مال، أو مأكول، فهو ريشٌ ورِيَاشٌ وقال ابن السكِّيتِ: الرِّيَاشُ مختص بالثِّيابِ، والأثاثِ، والرِّيش قد يُطلق على سَائِرِ الأمْوالِ.
قال ابنُ عباسِ ومجاهدٌ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: وريشًا يعني مالًا، يقال تريش الرَّجُل إذا تَمَوَّلَ.
وقيل: الرِّيشُ: الجمالُ كام تقدَّم أي: ما يتجملون به من الثِّيابِ.
وقوله: {وَلِبَاسُ التقوى}.
قرأ نافعٌ وابن عامرٍ والكسائيُّ: {لباسَ} بالنَّصْبِ، والباقون بالرَّفْعِ.
فالنَّصْبُ نَسَقًا على {لِبَاسًا} أي: أنزلنا لِبَاسًا مُوارِيًا وزينة، وأنزلنا أيضًا لِبَاس التَّقْوَى، وهذا يُقَوِّي كَوْنَ {رِيشًا} صفة ثانية لـ {لِبَاسًا} الولى إذْ لو أراد أنَّهُ صفة لِبَاسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه، كما أبْرَزَ هذا اللِّبَاسَ المضاف للتَّقْوَى.
وأما الرَّفْعُ فمن خَمْسَةِ أوْجُهٍ:
أحدها: أن يكون {لِبَاس} مبتدأ، و{ذلك} مبتدأ ثان و{خير} خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأوَّلِ، والرَّابِطُ هنا اسم الإشارة، وهو أحد الرَّوابِطِ الخَمْسَةِ المتفق عليها، ولنا رابط سَادِسٌ، فيه خلاف تقدَّم التنبيه عليه.
وهذا الوَجْهُ هو أوْجَهُ الأعَارِيبِ في هذه الآية الكريمة.
الثاني: أن يكون {لِبَاس} خبر مبتدأ محذوف أي: وهو لِبَاسُ، وهذا قول أبي إسحاق، وكأنَّ المعنى بهذه الجملة التَّفسيرُ لِلبَاس المتُقدم، وعلى هذا، فيكونُ قوله: {ذَلِكَ} جملة أخرى من مبتدأ وخبر.
وقدَّره مكي بأحسن من تَقْدير الزَّجَّاجِ فقال: وسَتْر العورة لباس التَّقْوَى.
الثالث: أن يكون {ذلك} فَصْلًا بين المبتدأ وخبره، وهذا قَوْلُ الحوفيِّ، ولا نعلم أنَّ أحدًا من النُّحَاةِ أجَازَ ذلك، إلاَّ أنَّ الواحِدِيَّ قال: ومن قال إن ذلك لَغْوٌ لم يكن على قوله دلالة؛ لأنَّهُ يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا.
قال شهابُ الدِّين: فقوله: {لَغْوٌ} هو قريب من القول بالفَصْلِ لأنَّ الفَصْلَ لا محلَّ له من الإعرابِ على قول جمهور النَّحويين من البصريين والكوفيين.
الرابع: أن يكون {لِبَاس} مبتدأ و{ذلك} بَدَلٌ منه، أو عطف بيان له، أو نعت، و{خيرٌ} خبره، وهو معنى قول الزَّجَّاجِ وأبِي عليٍّ، وأبِي بَكْرِ بْنِ الأنْبَاريِّ، إلا أنَّ الحُوفي قال: وأنا أرى ألاَّ يكون {ذلك} نعتًا لـ {لِبَاسُ التَّقْوَى}؛ لأنَّ الأسْمَاء المبهمة أعرف ما فيه الألف واللاَّم، وما أضيف إلى الألف واللاَّمِ، وسبيل النَّعْتِ أن يكون مُسَاوِيًا للمنعوت، أو أقَلَّ منه تَعْرِيفًا، فإنْ كان قد تقدَّم قول أحدٍ به فهو سهوٌ.
قال شهابُ الدِّين: أمّا القَوْلُ به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزَّجَّاج والفارسي وابنالأنْبَارِيّ، ونصَّ عليه أبُو عليٍّ في الحُجَّةِ، أيضًا وذكره الوَاحِدِيُّ.
وقال ابن عطيَّة: هو أنبل الأقوال.
وذكر مكيٌّ الاحتمالات الثلاثة: أعني كَوْنَهُ بَدَلًا، أو بيانًا، أو نعتًا، ولكن ما بحثه الحُوفِيُّ صحيحٌ من حيث الصِّناعةِ، ومن حيثُ إنَّ الصَّحيحَ في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة؛ ولكن قد يُقَالُ: القائلُ بكونه نَعْتًا لا يجعله أعرف من ذِي الألِفِ واللام.
الخامس: جوَّز أبُو البقاءِ أن يكون {لِبَاسُ} مبتدأ، وخبره محذوف أي: ولباسُ التَّقْوى ساتر عوراتكم وهذا تَقْدِيرٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ.
وإسنادُ الإنزالِ إلى اللِّبَاسِ: إمَّا لأنَّ أنْزَلَ بمعنى خَلَقَ كقوله: {وَأَنزَلْنَا الحديد} [الحديد: 25] {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، وإمَّا على ما يسمِّيه أهل العلم التدريج، وذلك أنَّهُ ينزِّلُ أسْبَابَهُ، وهي الماء الذي هو سَبَبٌ في نبات القُطْنِ والكتَّانِ، والمَرْعى الذي تَأكُلُه البَهَائِمُ ذوات الصُّوف والشَّعَرِ، والوَبَرِ التي يُتَّخَذُ منها الملابِسُ؛ ونحوه قول الشاعر: [الرجز]
أقْبَلَ في المُسْتَنِّ مِنْ سَحَابَهْ ** أسْنِمَةُ الآبَالِ فِي رَبَابَهْ

فجعله جَائِيًا للأسنمة التي للإبل مجازًا لمَّا كان سببًا في تربيتها، وقريب منه قول الآخر: [الوافر]
إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَوْمٍ ** رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غَضَابَا

وقال الزَّمَخْشَريُّ: جَعَلَ ما في الأرض منزَّلًا من السماء؛ لأنَّهُ قضي ثَمَّ وكتب، ومنه {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6].
وقال ابن عطيَّة: وأيضًا فَخَلْقُ اللَّه وأفعاله، إنَّما هي من علوٍ في القَدْر والمنزلة، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه أول الآية.
وفي قراءة عبد الله وأبَيّ {ولِبَاسُ التَّقْوى خَيْرٌ} بإسقاط {ذلك} وهي مقوِّية للقول بالفصل والبدلِ وعَطْفِ البَيَانِ.
وقرأ النَّحْوِيُّ: {ولبُوسُ} بالواو ورفع السِّين.
فأمَّا الرَّفعُ فعلى ما تقدَّم في {لباس}، وأمَّا {لبُوسُ} فلم يعينوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثل قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80]؟ أو بضمِّ اللاَّم على أنَّهُ جمع؟ وهو مشكل، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْسٍ بكسر اللام بمعنى مَلْبُوسٍ.
قوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} مبتدأ وخبر، والإشارةُ به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللِّبَاسِ والرِّيش ولباس التَّقْوَى.
وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور، وهو لباسِ التقوى فقط. اهـ. باختصار.